النكبة المستمرة- صمود الشعب الفلسطيني في وجه التهجير والتصفية

المؤلف: ماجد الزير09.19.2025
النكبة المستمرة- صمود الشعب الفلسطيني في وجه التهجير والتصفية

خلال مسيرة سبعة وسبعين عامًا منذ النكبة المشؤومة، يتبدى الدور المحوري للشعب الفلسطيني في مواجهة محاولات متنوعة ومتعددة الأوجه، سواء من حيث مصادرها أو أهدافها الخبيثة، والتي تهدف إلى طمس قضيته العادلة وإنهاء الصراع الدائر، وذلك من خلال التعدي السافر على حقوقه الأصيلة. من بين هذه المحاولات، تبرز مشاريع التهجير القسري، وفرض ما يسمى "الوطن البديل"، ومساعي التوطين المرفوضة، والإلغاء التام لحق العودة المقدس.

ولولا ذلك التضافر الملحوظ والتلاقي المتزامن لعدة عوامل جوهرية، لما كان لقضية فلسطين أن تظل حاضرة وبقوة، وأن تتصدر المشهد السياسي العالمي باستمرار. وتشمل هذه العوامل الجهود الذاتية الحثيثة التي يبذلها الشعب الفلسطيني، وامتدادًا لذلك، الفعل التضامني الراسخ الداعم للحقوق الفلسطينية على الصعيد القومي العربي، وكذلك على المستويين الإسلامي والدولي، سواء على المستوى الرسمي أو الشعبي، دون استثناء.

وعلى النقيض تمامًا، هناك جهدٌ تآمريّ مُمنهج ومتراكم يسعى جاهدًا لدعم وتعزيز مشروع دولة الاحتلال الغاشم، والحفاظ على تماسكه واستمراره. وقد ساهم هذا الجهد الخبيث أيضًا في تعزيز عدوانيته المتزايدة. ومع ذلك، فقد أسهم في إبقاء مفردات القضية بأحرفها الأولى ماثلة ومستمرة.

وفي خضم هذه التحديات الجسام، نرى أن الأهم بين كل تلك العوامل، هو المسيرة الكفاحية الفلسطينية المتواصلة، ورفض الشعب الفلسطيني القاطع للتنازل عن حقوقه التاريخية، ومقاومته الشرسة بكل الوسائل لمشاريع التصفية، وعمله الدؤوب والمضني لاستعادة أرضه السليبة، وفرض إيقاعه الخاص على المشهد العام للقضية.

ومما ميّز مسيرة النضال الفلسطيني العظيم، التبادل المستمر في الأداء المقاوم بين جموع أبناء الشعب، حيث كان تواجده وتشتته وتوزعه بين الداخل والخارج، بمثابة تحويل للمحنة إلى منحة حقيقية، واستثمار للظروف الصعبة في سبيل تحقيق الهدف الأسمى.

وسجّل التاريخ بأحرف من نور، انطلاق الفعل التحرري المنظم بعد النكبة، وذلك بإنشاء منظمة التحرير الفلسطينية في أحضان الشتات الفلسطيني، وما قدمته من أشكال المقاومة كافة، وما نتج من تأطير للفعل التحرري الفلسطيني في بوتقة وطنية موحدة على حد سواء.

ثم انتقل الفعل المقاوم المؤثر والمميز إلى قلب الداخل الفلسطيني، وكان أبرز سماته اختراق الفضاء العالمي، وبدأ بتقديم القضية الفلسطينية بصورة مختلفة وأكثر وضوحًا، وهنا نتحدث عن انتفاضتي الحجارة والأقصى المباركتين، والفعل البطولي العظيم لأبناء الشعب الفلسطيني الصامد في قطاع غزة، وصمودهم الأسطوري أمام خمس حروب وعدوان وحشي شنته دولة الاحتلال الغاشم، وآخرها وما زال جاريًا من عدوان وإبادة جماعية وتطهير عرقي على مدار الخمسة عشر شهرًا المتواصلة.

وفي السياق الكفاحي ذاته، يبرز الفعل المقاوم الباسل لأهل الضفة الغربية والقدس الشريف، وتجذر أبناء الشعب الفلسطيني ووقوفهم الشامخ في وجه الاستيطان الاستعماري والمستوطنين الغزاة، ويكتمل هذا الدور البطولي بما قدمه أبناء الشعب الفلسطيني في داخل أراضي عام 1948، وما يمكن أن يكمل عِقد وحدة الأرض والشعب والمصير.

وفي هذا الإطار، نضع ما يحاول الرئيس الأميركي السابق العائد إلى البيت الأبيض ترامب، من الدعوة المشبوهة لتهجير أبناء الشعب الفلسطيني في قطاع غزة، في ذات السياق التاريخي والسياسي، بأن يجرب شخصية سياسية غربية نافذة مجددًا حظه العاثر في تهجير الشعب الفلسطيني، وتمتين أركان مشروع الاحتلال البغيض، وإعطائه مزيدًا من الشرعية الزائفة، مخالفًا بذلك القوانين الدولية والأعراف الإنسانية، وكل ما يمكن أن يكون ضربًا من المنطق في السياسة ومسارات الصراعات وإنهائها على غير حق وعدل.

ورغم ما يمكن أن يترتب على مشروع ترامب هذا من أخطار جسيمة وتداعيات وخيمة، وخاصة على أبناء قطاع غزة الأبطال الذين دفعوا وما زالوا يدفعون ثمنًا باهظًا للغاية أمام آلة الحرب والقتل والتدمير والتطهير والتهجير الإسرائيلية، فإننا نرى أن الرئيس الأميركي قدّم فرصة قد تكون فريدة للقضية الفلسطينية وشعبها المناضل، وخدمها بشكل غير مقصود، سواء في عبثية المضمون في تجاوزه لإرادة الشعب الفلسطيني، وعدم إعطائه الاعتبار بالحدود الدنيا للتعامل الإنساني، وكذلك التأثير المباشر لمشروع التهجير الذي يؤثر وبشكل جوهري عضوي بنيوي على دول إقليمية وخاصة مصر والأردن، وخدم القضية في توقيت طرح المشروع، وأعطى عامل قوة إضافيًا للدفاع عن الحق الفلسطيني في منع التهجير القسري.

لم يعد الشعب الفلسطيني وحده المعني بالتصدي لسياسة الرئيس ترامب الحمقاء، بل تكاد دول على اتساع الخريطة الجغرافية العالمية مستهدفة ومعنية بالوقوف في وجه السياسة الأميركية وإيقاف إجراءاتها التعسفية، خاصة أن ما يتهددها من وزن الخطر القومي الذي يؤثر على عصب الحياة في الدول، وتعدى ذلك إلى فرض عقوبات جائرة على مؤسسات دولية كمحكمة العدل الدولية، وما يشير إلى شيء من وحدة الموقف العالمي ضد سياسات ترامب – وخاصة مشروع التهجير- موقف المستشار الألماني شولتس الذي وصف مشروع ترامب بأنه "فضيحة رهيبة".

ولعل هذا الوصف يحمل الكثير من الدقة، حيث إن سياسة ترامب تضرب المشاريع الأميركية نفسها للسلام في الشرق الأوسط في دورته الأولى من قبيل تطبيع دولة الاحتلال مع الدول العربية واتفاقات أبراهام المشؤومة، خاصة أن مشروع التهجير من زاوية ورفض إقامة الدولة الفلسطينية من زاوية أخرى، يجعل من فرص مرامي مشاريع السلام في مهبّ الريح.

ثم يبرز عامل التوقيت الحاسم، إذ إن القضية الفلسطينية تتصدر المشهد العالمي لما يزيد على سنة ونصف، وقد حققت مكاسب إستراتيجية ملموسة في تبلور وعي عالمي متزايد بالمظلمة الفلسطينية، وأن تفوق سرديّة الحق الفلسطيني على سرديّة الباطل الإسرائيلي أضحى واضحًا جليًا، ولم يعد العالم ينطلي عليه الأكاذيب، وقد تابع عن كثب ما وقع من جرائم بشعة في قطاع غزة، وتحول بمجهوده العابر لحدود الدول والقارات عبر العالم إلى فعل تضامنيّ مستدام.

وما فعلته دولة الاحتلال المجرمة في قطاع غزة على مدار الخمسة عشر شهرًا الماضية لا يزال حاضرًا ماثلًا أمام أعيننا، فلم يكن أشد المتشائمين يتصور وقوع عمليات قتل وتدمير ممنهج بهذا الحجم الهائل، وعلى مرأى ومسمع من العالم أجمع، كما حدث على يد آلة الحرب الإسرائيلية وجنود الاحتلال ضد أبناء الشعب الفلسطيني الأعزل في غزة هاشم.

وهنا يبرز الدور الأساسي والمحوري والحيوي للشعب الفلسطيني قيادة وفصائل وقطاعات شعبية – كمؤسسات أو جموع الشعب كأفراد – في أن يتصدر المشهد في التصدي لمخطط التهجير الشائن، خاصة أنه المستهدف الأول من هذا المشروع الخبيث، مع عدم التقليل من الأهمية القصوى والإستراتيجية للدول العربية الشقيقة، وخاصة جمهورية مصر العربية والمملكة الأردنية الهاشمية، والدول ذات الوزن الإقليمي والدولي وفي مقدمتها المملكة العربية السعودية، وكذا الحال بالنسبة للدول الإسلامية كجمهورية تركيا.

فإن ما يعطي زخمًا وقوة دافعة لكل هذه العوامل الرافضة لمشروع التهجير هو مدى قوة وصلابة الموقف الفلسطيني الموحد. وتبرز هنا الأهمية القصوى والواجب الوطني والقومي على كل شريحة من شرائح الشعب الفلسطيني بأن تضطلع بدورها الكامل في التصدي لهذا المخطط الآثم، حيث وجدت في الداخل والخارج، وهنا نشير بكل فخر واعتزاز إلى أن أبناء غزة البواسل قد أدوا دورهم وزيادة في الدفاع عن حياض القضية الفلسطينية العادلة. وبالتالي، فإن الدور يزداد حاجة على من لديه مساحة إمكانات ونفاذية أكبر، والمعنيّ هنا على وجه الخصوص هم فلسطينيو الخارج، المنتشرون في أرجاء المعمورة في أكثر من مئة دولة وفي قارات العالم الست، بحيث يتماثل دورهم مع تجذر فلسطينيي الداخل في أرض فلسطين، بل ومقاومتهم الباسلة للاحتلال الغاشم ومخططاته الخبيثة وجهًا لوجه.

وقد تموضع فلسطينيو الخارج في دور الداعم المساند ضمن الحراك العالمي الداعم لفلسطين، وطوال فترة العدوان الهمجي على قطاع غزة، وكان فعلهم منوعًا ومتميزًا وفاعلًا، ولكن مع ازدياد الخطر الذي يدهم الحقوق الفلسطينية ويستهدف شطبها وتصفيتها، يتطلب هذا وضع خطط محكمة وإستراتيجيات منظمة ومنسقة، لكي يُسمع الشعب الفلسطيني صوته المدوي في كل مكان.

ولعل المطلوب وبإلحاح في هذه المرحلة الحرجة، هو فعل جاد ومؤثر باتجاهين متوازيين؛ أولهما دعم صمود أبناء غزة الأبطال في وجه المخطط الخبيث، وأن يشعروا بأنهم لم يتركوا لقدرهم المحتوم، وخاصة من قِبل إخوانهم وأشقائهم وأبناء جلدتهم في جميع أنحاء العالم، وهم المكلومون المسحوقون بعد كل هذا الدمار والخراب.

وهنا نطرح مبادرة إنسانية نبيلة، وهي مبادرة التوأمة والمؤاخاة المباشرة بين العوائل الفلسطينية في الخارج وكل عوائل قطاع غزة المنكوب، وبشكل مستدام ومنظم، وبالتنسيق مع الجهات الرسمية المعنية في قطاع غزة، والفكرة الأساسية ألا تُترك عائلة في غزة دون إعالة ورعاية، وأن يكون التعارف والتكافل مباشرًا، ودون وسيط أو تدخل، كما يعُول المرء أخاه وعائلته بقرابة الدم، وأن يكون ذلك مستدامًا ومستمرًا. هذه الإغاثة الشاملة تضمن الدعم الإغاثي العاجل، وقبله الدعم النفسي والمعنوي الضروري.

ويأتي مع هذا وبنفس مستوى الجدية والأهمية، الفعل السياسي والشعبي والإعلامي والقانوني عبر التواصل الفعال مع صنّاع القرار المحليين والدوليين، وبكافة الأشكال التي تسمح بها القوانين والأنظمة المرعية، وأن تصلهم الرسالة واضحة جلية بأن الشعب الفلسطيني في كل مكان يرفض وبشكل قاطع أية محاولات للنيل من حقوقه المشروعة.

ومن الفعل المطلوب أيضًا، تنظيم المؤتمرات الحاضنة التي تعبر بصدق عن رفض هذه المشاريع المشبوهة، وخاصة من قِبل المؤسسات العاملة في جميع أنحاء العالم، والتي انتظمت في عملها التأطيري للشعب الفلسطيني خلال العقود الماضية سواء في الأمريكيتين أو في قارة أوروبا أو العابرة أو غير العابرة للحدود، من قبيل المؤتمر الشعبي لفلسطينيي الخارج. وعامل الزمن وسرعة الفعل له أهمية قصوى في هذا السياق الحساس.

ومن الأهمية بمكان أيضًا أن تقوم المؤسسات الشعبية الفلسطينية باستنهاض القوى الشعبية العربية والعالمية، وحضها على القيام بمظاهر الرفض لمشاريع التهجير القسري، وذلك ضمن ما تسمح به القوانين المحلية والدولية.

وفي الختام، نقول في قراءتنا المتأنية للمشهد الفلسطيني الراهن، ورغم الأخطار المحدقة والتحديات الجسام، والألم الذي يعتصر قلوب الشعب الفلسطيني في قطاع غزة والضفة الغربية وفي أماكن عديدة أخرى، فإن المسار التاريخي للقضية الفلسطينية العادلة، قد أفرز مفردات حاضره الزاهر، وينبئ بمستقبل مشرق ستتحرر فيه فلسطين حتمًا، وسيعود اللاجئون الفلسطينيون إلى ديارهم ومدنهم وقراهم التي هُجّروا منها قسرًا في عام النكبة المشؤومة 1948.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة